فصل: السنة الثالثة عشرة من ولاية الظاهر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الثالثة عشرة من ولاية الظاهر

لإعزاز دين الله على مصر وهي سنة أربع وعشرين وأربعمائة‏.‏

فيها عملت الرافضة المأتم ببغداد في يوم عاشوراء على العادة فأقام بذلك العيارون أعني عن الزعران الذين كانوا غلبوا على بغداد وعجزت الحكام عنهم‏.‏

وفيها توفي أحمد بن الحسين بن أحمد أبو الحسين المعروف بابن السماك الواعظ البغدادي مولده سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وكان يعظ بجامع المنصور والمهدي ويتكلم على طريق الصوفية وكان لكلامه رونق غير أنهم تكلموا فيه وكانت وفاته ببغداد في ذي الحجة من السنة‏.‏

وفيها ثار أهل الكرخ بالعيارين فهربوا وكبسوا دورهم ونهبوا سلاحهم وطلبوا من السلطان المعاونة‏.‏

وسبب ذلك أن العيارين نهبوا تاجرًا فغضب له أهل سوقه فرد العيارون بعض ما أخذوا ثم كبسوا دار ابن العلواء الواعظ وأخذوا ماله ثم فعلوا ذلك بجماعة كثيرة حتى قام عليهم أهل الكرخ ووقع بينهم بسبب ذلك قتال وحروب يطول شرحها‏.‏

وفيها توفي أبو بكر بن محمد بن إبراهيم الأردستاني كان إمامًا زاهدًا فاضلًا معدودًا من كبار المشايخ وله كرامات وأحوال‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإصبعان‏.‏

السنة الرابعة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهي سنة خمس وعشرين وأربعمائة‏.‏

فيها هبت بنصيبين ريح سوداء قلعت معظم شجرها وكان بين البساتين قصر عظيم فرمته من أصله‏.‏

وفيها زلزلت الرملة زلزلة هدمت ثلث مدينة الرملة ونزل البحر مقدار ثلاثة فراسخ فنزل الناس يصيدون السمك فرجع عليهم فغرق من لم يحسن السباحة‏.‏

وفيها توفي أحمد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العباس القاضي الأبيوردي ولد سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وتولى القضاء بالجانبين ببغداد وسمع الحديث ورواه وكان عالمًا ورعًا مفتنًا يصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح وكان فقيرًا ويظهر الثروة ومات في جمادى الأولى ودفن بباب حرب‏.‏

وفيها توفي أحمد بن محمد ابن أحمد بن غالب الحافظ أبو بكر الخوارزمي ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ورحل إلى البلاد وسمع الكثير وحدث وكان إمامًا في اللغة والفقه والحديث ومات في يوم الأربعاء غرة شهر رجب‏.‏

وفيها توفي عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث أبو الفرج التميمي الفقيه الحنبلي الواعظ ولد سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وسمع الحديث ورواه وكان فقيهًا محدثًا واعظًا وكانت وفاته في شهر ربيع الأول ببغداد ودفن عند قبر الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه‏.‏

وفيها توفي محمد بن عبد الله أبو عبد الله بن باكويه الشيرازي أحد مشايخ الصوفية كان أوحد زمانه وله كرامات وإشارات ولقي خلقًا من المشايخ وحكى عنهم وسمع الحديث الكثير الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب البرقاني الحافظ في رجب وله تسع وثمانون سنة وأبو علي الحسن بن أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز في آخر يوم من السنة وولد في ربيع الأول عام تسعة وثلاثين وثلاثمائة وأبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن بندار بن شبانة الهمذاني وأبو الحسن عبد الله بن عمر المري الدمشقي وأبو الفضل عمر بن أبي سعد إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى الجوبري في صفر وأبو نصر عبد الوهاب بن إسماعيل الهروي الزاهد وأبو بكر محمد بن علي بن إبراهيم بن مصعب الأصبهاني التاجر‏.‏

انتهى كلام الذهبي‏.‏

وفيها وقع الطاعون بشيراز فكانت الأبواب تسد على الموتى ثم انتقل إلى واسط وبغداد والبصرة والأهواز وغيرها‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏

السنة الخامسة عشرة من ولاية الظاهر وهي سنة ست وعشرين وأربعمائة‏.‏

فيها استولى العيارون على بغداد وملكوا الجانبيين أعني الحرامية قال‏:‏ ولم يبق للخليفة ولا لجلال الدولة معهم حكم‏.‏

وكان العيارون في دور الأتراك والحواشي يقيمون نهارًا ويخرجون ليلًا والأتراك والحواشي تقوم معهم في الباطن فكانوا يخرجون ليلًا ويعملون العملات وأفسدوا وفعلوا أفعالًا قبيحة وأظهروا الإفطار في شهر رمضان نهارًا وكان ذلك كله بمواطأة الأتراك‏.‏

وفيها ورد كتاب مسعود بن محمود بن سبكتكين على الخليفة أنه افتتح جرجان وطبرستان وغزا الهند وافتتح بلادًا كثيرة‏.‏

وفيها توفي أحمد بن كليب الشاعر المغربي‏.‏

قال أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي في تاريخه كان أحمد هذا يهوى أسلم بن حمد بن سعيد قاضي قضاة الأندلس وكان أسلم من أحسن أهل زمانه فافتتن به وقال فيه الأشعار الرائقة‏.‏

ثم سكت الحميدي ولم يذكر ما قاله في أسلم المذكور من الأشعار‏.‏

وفيها توفي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان أبو علي البزاز إمام محدث مشهور من أهل بغداد ولد سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة سمع خلقًا كثيرًا وكان صالحًا ثقة صدوقًا‏.‏

وفيها توفي الحسن بن عثمان بن أحمد بن الحسين بن سورة أبو عمر الواعظ البغدادي سمع الحديث وتفقه وكان شيخًا له لسان حلو في الوعظ وكان له شعر على طريق القوم فمنه قوله‏:‏ دخلت على السلطان في دار عزه بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل فقلت انظروا ما بين فقري وملككم بمقدار ما بين الولاية والعزل أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وخمس عشرة إصبعًا‏.‏

السنة السادسة عشرة من ولاية الظاهر لإعزاز دين الله على مصر وهي سنة سبع وعشرين وأربعمائة‏.‏

وفيها كانت وفاته حسب ما تقدم في ترجمته‏.‏

فيها أعني سنة سبع وعشرين أرسل الظاهر قبل موته خمسة آلاف دينار فصلح بها نهر ينتهي إلى الكوفة ويرد إليه ماء الفرات وجاء أهل الكوفة يستأذنون القائم بأمر الله في ذلك فثقل عليه وسأل الفقهاء فقالوا‏:‏ هذا مال تغلب عليه من فيء المسلمين فصرفه في هذا الوجه فأذن لهم القائم في ذلك‏.‏

وفيها لم يحج أحد من العراق وحجوا من الشام ومصر‏.‏

وفيها توفي أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي صاحب التفسير المشهور‏.‏

قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ ليس فيه ما يعاب به إلا ما ضمنه من الأحاديث الواهية التي هي في الضعف متناهية خصوصًا في أوائل السور‏.‏

وفيها توفي الحسن بن وهب أبو علي الكاتب المجود كان فاضلًا إمامًا مجودًا وخطه معروف مشهور بالحسن‏.‏

وفيها توفي حمزة بن يوسف بن إبراهيم الجرجاني الحافظ هو من ولد هشام بن العاص بن وائل السهمي وكان عالمًا فاضلًا رحل في طلب العلم وسمع الحديث الكثير وقال أنبأنا الحسين بن عمر الضراب أنشدنا شعبان الصيرفي‏:‏ أشد من فاقة الزمان وقوف حر على هوان فاسترزق الله واستعنه فإنه خير مستعان أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وخمس عشرة إصبعًا‏.‏

خلافة المستنصر بالله على مصر هو أبو تميم معد الملقب بالمستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله معد أول خلفاء الفاطميين بمصر ابن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدي عبيد الله العبيدي الفاطمي المغربي الأصل المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة وهو الخامس من خلفاء مصر من بني عبيد والثامن من المهدي عبيد الله‏.‏

ولي الخلافة بعد موت أبيه الظاهر لإعزاز دين الله في يوم الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة‏.‏

وكان عمره يوم ولي الخلافة سبع سنين وسبعة وعشرين يومًا وختن وهو ابن ست سنين‏.‏

قال الذهبي رحمه الله‏:‏ هو معد أبو تميم الملقب بأمير المؤمنين المستنصر بالله بن الظاهر بن الحاكم بأمر الله - وساق بقية نسبه بنحو ما سقناه إلى أن قال -‏:‏ بقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر وهو الذي خطب له بإمرة المؤمنين على منابر العراق في نوبة الأمير أبي الحارث أرسلان المعروف بالبساسير في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة‏.‏

ولا أعلم أحدًا في الإسلام لا خليفة ولا سلطانًا طالت مدته مثل المستنصر هذا‏.‏

وولي وهو ابن سبع سنين‏.‏

ولما كان في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قطع الخطبة له من المغرب الأمير المعز بن باديس - وقيل‏:‏ بل قطعها في سنة خمس وثلاثين - وخطب لبني العباس وخرج عن طاعة بني عبيد الباطنية‏.‏

وحدث في أيام المستنصر بمصر الغلاء الذي ما عهد بمثله منذ زمان يوسف عليه السلام ودام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضًا حتى قيل‏:‏ إنه بيع رغيف واحد بخمسين دينارًا - فإنا لله وإنا إليه راجعون - وحتى إن المستنصر هذا بقي يركب وحده وخواصه ليس لهم دواب يركبونها وإذا مشوا سقطوا من الجوع وآل الأمر إلى أن استعار المستنصر بغلة يركبها من صاحب ديوان الإنشاء‏.‏

وآخر شيء نزحت أم المستنصر وبناته إلى بغداد خوفًا من أن يمتن جوعًا‏.‏

وكان ذلك في سنة ستين وأربعمائة‏.‏

ولم يزل هذا الغلاء حتى تحرك الأمير بدر الجمالي والد الأفضل أمير الجيوش من عكا وركب في البحر وجاء إلى مصر وتولى تدبير الأمور وشرع في إصلاح الأمر‏.‏

وتوفي المستنصر في ذي الحجة سنة 487 ه‏.‏

وفي دولته كان الرفض والسب فاشيًا مجهرًا والسنة والإسلام غريبًا‏!‏ فسبحان الحليم الخبير الذي يفعل في ملكه ما يريد‏.‏

وقام بعده ابنه المستعلي أحمد أقامه أمير الجيوش الأفضل‏.‏

واستقامت الأحوال فخرج أخوه نزار من مصر خفية فسار إلى ناصر الدولة أمير الإسكندرية فأعانه ودعا إليه فتمت بين أمير الجيوش وبينهم حروب وأمور إلى أن ظفر بهم‏.‏

انتهى كلام الذهبي في أمر المستنصر‏.‏

ونشرع الآن في ذكر المستنصر وأمر الغلاء بأوسع مما ذكره الذهبي من أقوال جماعة من المؤرخين وغيرهم‏.‏

قال العلامة أبو المظفر في تاريخه‏:‏ ولم يل أحد من الخلفاء الأمويين ولا العباسيين ولا المصريين مثل هذه المدة يعني مدة إقامة المستنصر في الخلافة ستين سنة قال‏:‏ وعاش المستنصر سبعًا وستين سنة وخمسة أشهر في الهزاهز والشدائد والوباء والغلاء والجلاء والفتن‏.‏

وكان القحط في أيامه سبع سنين مثل سني يوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه من سنة سبع وخمسين إلى سنة أربع وستين وأربعمائة‏.‏

أقامت البلاد سبع سنين يطلع النيل فيها وينزل ولا يوجد من يزرع لموت الناس واختلاف الولاة والرعية فاستولى الخراب على كل البلاد ومات أهلها وانقطعت السبل برًا وبحرًا‏.‏

وكان معظم الغلاء سنة اثنتين وستين‏.‏

وقال أبو يعلى بن القلانسي‏:‏ في أيامه يعني المستنصر ثارت الفتن في بني حمدان وأكابر القواد وغلت الأسعار واضطربت الأحوال واختلت الأعمال وحصر في قصره وطمع فيه‏.‏

ولم يزل على ذلك حتى استدعى أمير الجيوش بدرًا الجمالي من عكا إلى مصر فاستولى على التدبير وقتل جماعة ممن يطلب الفساد فتمهدت الأمور ولم يبق للمستنصر أمر ولا نهي إلا الركوب في العيدين‏.‏

ولم يزل كذلك حتى مات بدر الجمالي وقام بعده ولده الأفضل‏.‏

ولما مات المستنصر وقام المستعلي مقامه وتقررت الأمور خرج عبد الله ونزار ابنا المستنصر خفية وقصد نزار الإسكندرية إلى ناصر الدولة واليها وجرت بينه وبين الأفضل حروب بسبب ذلك إلى أن ثبت أمر المستعلي‏.‏

انتهى كلام أبي يعلى باختصار‏.‏

قلت‏:‏ وأما ما ذكره الذهبي رحمه الله - من الخطبة للمستنصر على منابر بغداد وبالعراق كله وخلع القائم بأمر الله العباسي من الدعوة فكان من قصته أن السلطان طغرلبك اشتغل بحصار تلك النواحي ونازل الموصل ثم توجه إلى نصيبين لفتح الجزيرة وتمهيدها‏.‏

وأرسل الأمير أبو الحارث أرسلان المعروف بالبساسيري إلى إبراهيم ينال أخي السلطان طغرلبك لينجده فأخذ البساسيري يعده ويمنيه ويطمعه في الملك حتى أصغى إليه وخالف أخاه طغرلبك‏.‏

وساق إبراهيم ينال في طائفة من العسكر إلى الري‏.‏

وبلغ السلطان طغرلبك خبر عصيان إبراهيم فانزعج وسار وراءه وترك بعض عسكره في ديار بكر مع زوجته الخاتون ووزيره عميد الملك الكندري فتفرقت العساكر‏.‏

وعادت زوجته الخاتون بالعسكر الذي صحبها إلى بغداد‏.‏

وأما زوجها السلطان طغرلبك فإنه التقى هو وأخوه إبراهيم ينال وتقاتلا فظفر عليه أخوه إبراهيم ينال وانهزم السلطان طغرلبك إلى همذان فساق أخوه إبراهيم خلفه وحاصره بها‏.‏

فعزمت الخاتون على إنجاد زوجها‏.‏

واختبطت بغداد وعظم البلاء بها وقامت الفتنة على ساق‏.‏

وتم للأمير أبي الحارث أرسلان البساسيري ما دبره من المكر‏.‏

وأرجف الناس ببغداد بمجيء البساسيري‏.‏

ونفر الوزير عميد الملك وزير طغرلبك والأمير أنوشروان إلى الجانب الغربي من بغداد وقطعا الجسر‏.‏

ونهبت الغز دار خاتون‏.‏

وأكل القوي الضعيف‏.‏

ووقع ببغداد وأعمالها أمور هائلة شنعة‏.‏

ثم دخل الأمير أبو الحارث أرسلان البساسيري بغداد في ثامن ذي القعدة بالرايات المستنصرية وعليها ألقاب المستنصر هذا صاحب مصر فمال إلى البساسيري أهل باب الكرخ وفرحوا به لكونهم رافضة والبساسيري وخلفاء مصر أيضًا رافضة فانضموا إلى البساسيري وتشفوا من أهل السنة وشمخت أنوف المنافقين الرافضة وأعلنوا بالأذان ب حي على خير العمل ببغداد‏.‏

واجتمع خلق من أهل السنة على الخليفة القائم بأمر الله العباسي وقاتلوا معه وفشت الحرب بين الفريقين في السفن أربعة أيام‏.‏

وخطب يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة ببغداد للمستنصر هذا صاحب الترجمة بجامع المنصور وأذنوا ب حي على خير العمل‏.‏

وعقد الجسر وعبرت عساكر البساسيري إلى الجانب الشرقي فخندق الخليفة القائم بأمر الله على نفسه حول داره وحول نهر المعلى فأحرقت الغوغاء نهر المعلى ونهبت ما فيه وقوي البساسيري وتفلل عن الخليفة القائم أكثر الناس‏.‏

فاستجار القائم بقريش بن بدران أمير العرب وكان مع البساسيري فأجاره ومن معه وأخرجه إلى مخيمه‏.‏

وقبض البساسيري على وزير القائم بأمر الله رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة وقيده وشهره على جمل وعليه طرطور وعباءة وجعل في رقبته قلائد كالمسخرة وطيف به بالشوارع وخلفه من يصفعه ثم سلخ له ثور وألبس جلده وخيط عليه وجعلت قرون الثور في رأسه ثم علق على خشبة وعمل في فيه كلوبان فلم يزل يضطرب حتى مات رحمه الله‏.‏

ونصب للقائم الخليفة خيمة صغيرة بالجانب الشرقي في المعسكر ونهبت العامة دار الخلافة فأخذوا منها ما لا يحصى ولا يوصف كثرة‏.‏

فلما كان يوم الجمعة رابع ذي الحجة لم تصل الجمعة بجامع الخليفة وخطب بسائر الجوامع للمستنصر المذكور وقطعت الخطبة العباسية بالعراق‏.‏

وهذا شيء لم يفرح به أحد من آباء المستنصر‏.‏

ثم حمل القائم بأمر الله إلى حديثة عانة فجلس بها وسلم إلى صاحبها مهارش‏.‏

وذلك أن البساسيري وقريشًا اختلفا في أمر القائم بأمر الله ثم وقع اتفاقهما بعد أمور على أن يكون عند مهارش إلى أن يتفقا على ما يتفقان عليه في أمره‏.‏

ثم جمع أبو الحارث أرسلان البساسيري القضاة والأشراف ببغداد وأخذ عليهم البيعة للمستنصر العبيدي صاحب الترجمة فبايعوا قهرًا على رغم الأنف‏.‏

وقال الشيخ عز الدين بن الأثير في تاريخه‏:‏ إن إبراهيم ينال كان أخوه السلطان طغرلبك قد ولاه الموصل عام أول وإنه في سنة خمسين فارق الموصل ورحل نحو بلاد الجبل فنسب السلطان رحيله إلى العصيان فبعث وراءه رسولا معه الفرجية التي خلعها عليه الخليفة‏.‏

ولما فارق الموصل قصدها البساسيري وقريش بن بدران وحاصراها وأخذا البلد ليومه وبقيت القلعة فحاصراها أربعة أشهر حتى أكل أهلها دوابهم ثم سلموها بالأمان فهدمها البساسيري وعفى أثرها‏.‏

وسار طغرلبك بجريدة في ألفين إلى الموصل فوجد البساسيري وقريشًا فارقاها فساق وراءهم ففارقه أخوه وطلب همذان فوصلها في رمضان‏.‏

قال‏:‏ وقد قيل إن المصريين كاتبوه وإن البساسيري استماله وأطمعه في السلطنة فسار طغرلبك في أثره يعني أثر أخيه إبراهيم ينال‏.‏

قال‏:‏ وأما البساسيري فوصل إلى بغداد في ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة فارس على غاية الضر والفقر فنزل بمشرعة الروايا ونزل قريش في مائتي فارس عند مشرعة باب البصرة ومالت العامة للبساسيري‏:‏ أما الشيعة فللمذهب وأما أهل السنة فلما فعل بهم الأتراك‏.‏

وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من ضعف البساسيري يرى المبادرة إلى الحرب فاتفق أنه في بعض الأيام التي تحاربوا فيها حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء ثم استأذن في الحرب وضمن له قتل البساسيري فأذن له من غير أن يعلم عميد العراق وكان رأي عميد العراق المطاولة رجاء أن ينجدهم طغرلبك فخرج الهمذاني بالهاشميين والخدم والعوام إلى الحلبة وأبعدوا والبساسيري يستجرهم‏.‏

فلما أبعدوا حمل عليهم فانهزموا وقتل جماعة وهلك آخرون في الزحمة بباب الأزج‏.‏

وكان رئيس الرؤساء واقفًا دون الباب فدخل داره وهرب كل من في الحريم ولطم عميد العراق على وجهه كيف استبد رئيس الرؤساء بالأمر ولا معرفة له بالحرب‏.‏

فاستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم فلم يرعهم إلا الزعقات وقد نهب الحريم ودخلوا من باب النوبي فركب الخليفة لابسًا للسواد وعلى كتفه البردة وعلى رأسه اللواء وبيده السيف وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسللة فرأى النهب إلى باب الفردوس من داره فرجع إلى ورائه نحو عميد العراق فوجده قد استأمن إلى قريش فعاد وصعد إلى المنظرة‏.‏

وصاح رئيس الرؤساء‏:‏ علم الدين يعني قريشًا أمير المؤمنين يستدنيك فدنا منه فقال‏:‏ قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك وأمير المؤمنين يستذم منك على نفسه وأصحابه بذمام الله وذمام رسوله وذمام العربية فقال‏:‏ قد أذم الله تعالى له قال‏:‏ ولي ولمن معه قال نعم وخلع قلنسوته وأعطاها الخليفة وأعطى رئيس الرؤساء بحضرته ذمامًا‏.‏

فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء وسارا معه‏.‏

فأرسل إليه البساسيري يقول‏:‏ أتخالف ما استقر بيننا - وكانا قد تحالفا ألا ينفرد أحدهما عن الآخر بشيء ويكون العراق بينهما نصفين - فقال قريش‏:‏ ما عدلت عما استقر بيننا عدوك ابن المسلمة يعني رئيس الرؤساء فخذه وأنا آخذ الخليفة فرضي البساسيري بذلك‏.‏

فبعث رئيس الرؤساء إليه مع منصور بن مزيد فحين رآه البساسيري قال‏:‏ مرحبًا بمدمر الدولة ومهلك الأمم ومخرب البلاد ومبيد العباد‏.‏

فقال له‏:‏ أيها الأجل العفو عند المقدرة‏.‏

فقال‏:‏ قد قدرت فما عفوت وأنت تاجر صاحب طيلسان ولم تبق على الحريم والأموال والأطفال فكيف أعفو عنك وأنا صاحب سيف وقد أخذت أموالي وعاقبت أصحابي ودرست دوري وسببتني وأبعدتني‏!‏‏.‏

واجتمع العوام على ابن المسلمة يعني رئيس الرؤساء وسبوه ولعنوه وهموا به‏.‏

فأخذه البساسيري بيده وسيره إلى جانبه خوفًا عليه من العامة‏.‏

وحصل في يد البساسيري جميع من كان يطلبه مثل ابن المردرسي وأبي عبد الله الدامغاني قاضي القضاة وهبة الله بن المأمون وأبي علي بن السيرواني وأبي عبد الله بن عبد الملك وكان من التجار الكبار وبينه وبين البساسيري عداوة وكان قد سكن في دار الخلافة خوفًا منه على ماله ونعمته‏.‏

وظفر بالسيدة خاتون بنت الأمير داود زوجة الخليفة فأحسن معاملتها ولم يتعرض لها‏.‏

وأما قريش فحصل في يده الخليفة وعميد العراق وأبو منصور بن يوسف وولده فحمل الخليفة إلى معسكره راكبًا وعلى كتفه البردة وبيده سيف مسلول وعلى رأسه اللواء‏.‏

ولحق الخليفة ذرب عظيم قام منه في اليوم مرارًا وامتنع من الطعام والشراب فسأله قريش وألح عليه حتى أكل وشرب وحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة فنزل بها‏.‏

وسار حاشية الخليفة على حامية إلى السلطان طغرلبك مستنفرين له‏.‏

ولما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد فبعث يطلب من متوليها ما يلبس فأرسل إليه جبة ولحافًا‏.‏

وركب البساسيري يوم الأضحى وعلى رأسه الألوية المصرية وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقي وأحسن إلى الناس وأجرى الجرايات على الفقهاء ولم يتعصب لمذهب وأفرد لوالدة الخليفة دارًا وراتبًا وكانت قد قاربت التسعين سنة‏.‏

ثم في آخر ذي الحجة أخرج رئيس الرؤساء مقيدًا وعلى رأسه طرطور وفي رقبته مخنقة جلود وهو يقرأ‏:‏ ‏"‏ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏"‏ الآية‏.‏

فبصق أهل الكرخ في وجهه لأنه كان متعصبًا لأهل السنة رحمه الله ثم صلب على صورة ما ذكرناه أولا‏.‏

وأما عميد العراق فقتله البساسيري أيضًا وكان شجاعًا شهمًا وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ‏.‏

ثم بعث البساسيري البشائر إلى مصر وكان وزير المستنصر هناك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي وكان أبو الفرج ممن هرب من البساسيري فذم للمستنصر فعله وخوفه من سوء عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت على البساسيري بغير الذي أمله فسار البساسيري إلى البصرة وواسط وخطب بهما أيضًا للمستنصر‏.‏

وأما طغرلبك فإنه انتصر في الآخر على أخيه إبراهيم ينال وقتله وكر راجعًا إلى العراق ليس له هم إلا إعادة الخليفة إلى رتبته‏.‏

وفي الجملة أن الذي حصل للمستنصر في هذه الواقعة من الخطبة باسمه في العراق وبغداد لم يحصل ذلك لأحد من آبائه وأجداده‏.‏

ولولا تخوف المستنصر من البساسيري أو تحريضه على ما هو بصدده لكانت دعوته تتم بالعراق زمانًا طويلا فإنه كان أولا أمد البساسيري بجمل مستكثرة‏.‏

فلو دام المستنصر على ذلك لكان البساسيري يفتتح له عدة بلاد‏.‏

قال الحسن بن محمد العلوي‏:‏ ‏"‏ إن الذي وصل إلى البساسيري من المستنصر من مال خمسمائة ألف دينار ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك وخمسمائة فرس وعشرة آلاف قوس ومن السيوف ألوف ومن الرماح والنشاب شيء كثير‏.‏

يعني قبل هذه الواقعة ولهذا قلنا‏:‏ لو دام المستنصر على عطائه للبساسيري لكان افتتح له عدة بلاد‏.‏

قلت‏:‏ ولله الحمد على ما فعله المستنصر من التقصير في حق البساسيري وإلا لكانت السنة تذهب بالعراق وتملكها الرافضة بأجمعها كما كان وقع بمصر ولما خطب البساسيري في بغداد باسم المستنصر معد هذا غنته مغنية بقولها‏:‏ الرمل - مجزوء يا بني العباس صدوا ملك الأمر معد ملككم كان معارًا والعواري تسترد فطرب المستنصر لذلك ووهبها أرضًا بمصر رزقة لها جائزة لإنشادها هذا الشعر وتلك الأرض الآن تعرف بأرض الطبالة بالقرب من بركة الرطلي لكونها غنته بهذه الأبيات وهي تطبل بدف كان في يدها فعرفت بأرض الطبالة وحكرت الأرض المذكورة وبنيت‏.‏

وكان ما وقع للمستنصر هذا تمام سعده‏.‏

ومن حينئذ أخذ أمره في إدبار من وقوع الغلاء والوباء بالديار المصرية‏.‏

وقاسى الناس شدائد واختل أمر مصر - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في وقته من هذه الترجمة - من استيلاء ناصر الدولة بن حمدان على ممالك الديار المصرية وزاد ابن حمدان في عطاء الجند حتى نفدت الخزائن وقلت الارتفاعات‏.‏

واتفق ابن حمدان مع الشريف أبي طاهر حيدرة بن الحسن الحسيني وكان قد نفاه بدر الجمالي من دمشق وكان محببًا للناس وتلقبه العامة بأمير المؤمنين وكان لما نفاه بدر الجمالي من دمشق دخل إلى مصر شاكيًا إلى ابن حمدان من بدر الجمالي - فاتفق ابن حمدان والشريف وحازم وحميد ابنا جراح وهما من أمراء عرب الشام وكان لهما في حبس المستنصر نيف وعشرون سنة فأخرجهما ابن حمدان واتفقوا على الفتك ببدر الجمالي فأعطاهم ابن حمدان أربعين ألف دينار ينفقونها في هذا الوجه‏.‏

وتحدث ابن حمدان بأن يرتب الشريف إذا عاد مكان المستنصر في الخلافة لنسبه الصحيح‏.‏

وانقسم عسكر مصر قسمين‏:‏ قسمًا مع ابن حمدان وقسمًا عليه وزادت مطالبة ابن حمدان بالأموال حتى استوعبها وأخرج جميع ما في القصر من ثياب وأثاث وباعها بالثمن البخس وحالف الأتراك سرًا على المستنصر‏.‏

وعلم المستنصر بما فعله مضافا لما سمع عنه من أمر الشريف فقلق وأرسل لابن حمدان ويقول بأنك قدمت علينا زائرًا وجئتنا ضيفًا فقابلناك بالإحسان وأكرمناك فقابلتنا بما لا نستحقه منك ونحن عليك صابرون وعنك مغضون‏.‏

وقد انتهت بك الحال إلى محالفة العسكر علينا والسعي في إتلافنا وما ذاك مما يهمك ونحب أن تنصرف عنا موفورًا في نفسك ومالك وإلا قابلناك على قبيح أفعالك‏.‏

فأغلظ ابن حمدان في الجواب واستهزأ بالرسول‏.‏

فبعث المستنصر إلى إلدكز الملقب بأسد الدولة وكان شيخ الأتراك والمقدم عليهم وكان من المخالفين على ابن حمدان فاستحضره واستحلفه وتوثق منه ومن جماعة ممن جرى مجراه وجمع الأتراك الذين معه والمغاربة وكتامة إلى باب القصر‏.‏

وعرف ابن حمدان بذلك فبرز بخيمة إلى بركة الحبش وأخرج المستنصر خيمته الحمراء وتسمى خيمة الدم فضربها بين القصرين من القاهرة‏.‏

واجتمع الناس على المستنصر وركب وسار إلى حرب ابن حمدان‏.‏

والتقوا بمكان يعرف بالباب الجديد فورد أكثر من كان مع ابن حمدان بالأمان إلى المستنصر‏.‏

وكان في جملة من ورد الأمير أبو علي ابن الملك أبي طاهر بن بويه ثم قتل المذكور بعد ذلك بمدة‏.‏

ووقع القتال فانكسر ابن حمدان وهرب بنفسه إلى الإسكندرية ونهبت دوره وأمواله ودور أصحابه‏.‏

ومضى ابن حمدان إلى حي من العرب وتزوج منهم وقوي بهم فصار يشن الغارات على أعمال مصر ويبعث إليه المستنصر في كل وقت جيشًا فيهزمه ابن حمدان‏.‏

ولا زال على ذلك حتى جمع ابن حمدان جمعًا كبيرًا ونزل الصالحية فخرج إليه من كان يهواه من المشارقة وامتدت عسكره نحو عشرة فراسخ وحاصر مصر فضعف المستنصر عن مقاومته وانحصر بالقاهرة‏.‏

وطال الحصار وغلت الأسعار حتى بلغت الراوية الماء ثلاثة عشر قيراطًا وكل ثلاثة عشر رطلا من الخبز دينارًا وعدمت الأقوات فضج العوام فخاف المستنصر أن يسلموه إليه فراسله وصالحه‏.‏

واقترح عليه ابن حمدان إبعاد إلدكز ومن يعاديه من المشارقة وأن ينفرد ابن حمدان بالبلاد وتدبير الأمور والعساكر فرضي المستنصر بذلك كله ورفع الحصار عن مصر وعادت الأمور إلى ما كانت عليه‏.‏

فهرب غالب من كان مع المستنصر إلى الشام ووفدوا على صاحبها بدر الجمالي‏.‏

وكان بدر الجمالي يكره ابن حمدان والشريف المذكور‏.‏

ثم ظفر الجمالي بالشريف المذكور وقتله خنقًا‏.‏

على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وصار المستنصر في قصره كالمحجور عليه ولا حكم له‏.‏

هذا والغلاء بمصر يتزايد حتى إنه جلا من مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحد والجوع الذي لم يعهد مثله في الدنيا فإنه مات أكثر أهل مصر وأكل بعضهم بعضًا‏.‏

وظهروا على بعض الطباخين أنه ذبح عدة من الصبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها‏.‏

وأكلت الدواب بأسرها فلم يبق لصاحب مصر - أعني المستنصر - سوى ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابة‏.‏

وبيع الكلب بخمسة دنانير والسنور بثلاثة دنانير‏.‏

ونزل الوزير أبو المكارم وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلا غلام واحد فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها فأخذوا وصلبوا فأصبح الناس فلم يروا إلا عظامهم أكل الناس في تلك الليلة لحومهم‏.‏

ودخل رجل الحمام فقال له الحمامي‏:‏ من تريد أن يخدمك سعد الدولة أو عز الدولة أو فخر الدولة‏.‏

فقال له الرجل‏:‏ أتهزأ بي‏!‏ فقال‏:‏ لا والله انظر إليهم فنظر فإذا أعيان الدولة ورؤساؤها صاروا يخدمون الناس في الحمام لكونهم باعوا جميع موجودهم في الغلاء واحتاجوا إلى الخدمة‏.‏

وأعظم من هذا أن المستنصر الخليفة صاحب الترجمة باع جميع موجوده وجميع ما كان في قصره حتى أخرج ثيابًا كانت في القصر من زمن الطائع الخليفة العباسي لما نهب بهاء الدولة دار الخليفة في إحدى وثمانين وثلاثمائة وأشياء أخر أخذت في نوبة البساسيري وكانت هذه الثياب التي لخلفاء بني العباس عند خلفاء مصر يحتفظون بها لبغضهم لبني العباس فكانت هذه الثياب عندهم بمصر بسبب المعيرة لبني العباس‏.‏

فلما ضاق الأمر على المستنصر أخرجها وباعها بأبخس ثمن لشدق الحاجة‏.‏

وأخرج المستنصر أيضًا طستًا وإبريقًا بلورًا يسع الإبريق رطلين ماء والطست أربعة أرطال وأظنه بالبغدادي فبيعا باثني عشر درهما فلوسًا ثم باع المستنصر من هذا البلور ثمانين ألف قطعة‏.‏

وأما ما باع من الجواهر واليواقيت والخسرواني فشيء لا يحصى‏.‏

وأحصي من الثياب التي أبيعت في هذا الغلاء من قصر الخليفة ثمانون ألف ثوب وعشرون ألف درع وعشرون ألف سيف محلى وباع المستنصر حتى ثياب جواريه وتخوت المهود وكان الجند يأخذون ذلك بأقل ثمن‏.‏

وباع رجل دارًا بالقاهرة كان اشتراها قبل ذلك بتسعمائة دينار بعشرين رطل دقيق‏.‏

وبيعت البيضة بدينار والإردب القمح بمائة دينار في الأول ثم عدم وجود القمح أصلا‏.‏

وكان السودان يقفون في الأزقة يخطفون النساء بالكلاليب ويشرحون لحومهن ويأكلونها‏.‏

واجتازت امرأة بزقاق القناديل بمصر وكانت سمينة فعفقها السودان بالكلاليب وقطعوا من عجزها قطعة وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها فخرجت من الدار واستغاثت فجاء الوالي وكبس الدار فأخرج منها ألوفًا من القتلى وقتل السودان‏.‏

واحتاج المستنصر في هذا الغلاء حتى إنه أرسل فأخذ قناديل الفضة والستور من مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام‏.‏

وخرجت امرأة من القاهرة في هذا الغلاء ومعها مد جوهر فقالت‏:‏ من يأخذ هذا ويعطيني عوضه دقيقًا أو قمحًا فلم يلتفت إليها أحد فألقته في الطريق وقالت‏:‏ هذا ما ينفعني وقت حاجتي فلا حاجة لي به بعد اليوم فلم يلتفت إليه أحد وهو مبدد في الطريق فهذا أعجب من الأول‏.‏

وقيل‏:‏ إن سبب ما حصل لمصر من الخلل في أول الأمر الفتنة التي كانت بمصر في أيام المستنصر هذا بين الأتراك والعبيد وهو أن المستنصر كان من عادته في كل سنة أن يركب على النجب مع النساء والحشم إلى جب عميرة وهو موضع نزهة فيخرج إليه بهيئة أنه خارج إلى الحج على سبيل الهزء والمجانة ومعه الخمر في الروايا عوضًا عن الماء ويسقيه الناس كما يفعل بالماء في طريق مكة‏.‏

فلما كان في جمادى الآخرة خرج على عادته المذكورة فاتفق أن بعض الأتراك جرد سيفًا في سكرته على بعض عبيد الشراء فاجتمع عليه طائفة من العبيد فقتلوه فاجتمع الأتراك بالمستنصر هذا وقالوا له‏:‏ إن كان هذا عن رضاك فالسمع والطاعة وإن كان عن غير رضاك فلا ترضى بذلك فأنكر المستنصر ذلك فاجتمع جماعة من الأتراك وقتلوا جماعة من العبيد بعد أن حصل بينهم وبين العبيد قتال شديد على كوم شريك وانهزم العبيد من الأتراك‏.‏

وكانت أم المستنصر تعين العبيد بالأموال والسلاح فظفر بعض الأيام أحد الأتراك بذلك فجمع طائفة الأتراك ودخلوا على المستنصر وقاموا عليه وأغلظوا له في القول فحلف لهم أنه لم يكن عنده خبر‏.‏

وصار السيف قائمًا بينهم‏.‏

ثم دخل المستنصر على والدته وأنكر عليها‏.‏

ودامت الفتنة بين الأتراك والعبيد إلى أن سعى وزير الجماعة أبو الفرج بن المغربي - وأبو الفرج هذا هو أول من ولي كتابة الإنشاء بمصر - ولا زال الوزير أبو الفرج هذا يسعى بينهم حتى اصطلحوا صلحًا يسيرًا فاجتمع العبيد وخرجوا إلى شبرى دمنهور‏.‏

فكانت هذه الواقعة أول الاختلاف بديار مصر فإنه قتل من الأتراك والعبيد خلائق كثيرة وفسدت الأمور فطمع كل أحد‏.‏

وكان سبب كثرة السودان ميل أم المستنصر إليهم فإنها كانت جارية سوداء لأبي سعد التستري اليهودي‏.‏

فلما ولي المستنصر الخلافة ومات الوزير صفي الدين الجرجرائي في سنة ست وثلاثين حكمت والدة المستنصر على الدولة واستوزرت سيدها أبا سعد المذكور ووزر لابنها المستنصر الفلاحي فلم يمش له مع أبي سعد حال فاستمال الأتراك وزاد في واجباتهم حتى قتلوا أبا سعد المذكورة فغضبت لذلك أم المستنصر وقتلت أبا منصور الفلاحي وشرعت في شراء العبيد السود وجعلتهم طائفة واستكثرت منهم‏.‏

فلما وقع بينهم وبين الأتراك قامت في نصرهم‏.‏

وقال الشيخ شمس الدين بن قزأوغلي في المرآة‏:‏ وكل هذه الأشياء كان ابن حمدان سببها ووافق ذلك انقطاع النيل وضاقت يد أبي هاشم محمد أمير مكة بانقطاع ما كان يأتيه من مصر فأخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب والميزاب وصادر أهل مكة فهربوا‏.‏

وكذا فعل أمير المدينة مهنأ وقطعا الخطبة للمستنصر وخطبا لبني العباس الخليفة القائم بأمر الله وبعثا إلى السلطان ألب أرسلان السلجوقي حاكم بغداد بذلك وأنهما أذنا بمكة والمدينة الأذان المعتاد وتركا الأذان ب حي على خير العمل فأرسل ألب أرسلان إلى صاحب مكة أبي هاشم المذكور بثلاثين ألف دينار وإلى صاحب المدينة بعشرين ألف دينار‏.‏

وبلغ الخبر بذلك المستنصر فلم يلتفت إليه لشغله بنفسه ورعيته من عظم الغلاء‏.‏

وقد كاد الخراب أن يستولي على سائر الإقليم‏.‏

ودخل ابن الفضل على القائم بأمر الله العباسي ببغداد وأنشده في معنى الغلاء الذي شمل مصر قصيدة منها‏:‏ الطويل‏.‏

وقد علم المصري أن جنوده سنو يوسف منها وطاعون عمواس أحاطت به حتى استراب بنفسه وأوجس منها خيفة أي إيجاس قلت‏:‏ وهذا شأن أرباب المناصب إذا عزل أحدهم بآخر أراد هلاكه ولو هلك العالم معه‏.‏

وهذا البلاء من تلك الأيام إلى يومنا هذا‏.‏